الموضوع المطروح والذي نتاوله هنا هو عن الأمن وأهميته لدى الفرد والمجتمع ،
وهو موضوع يتعلق بكل مخلوق حي يشعر به وإن كانوا متفاوتين في التعبير عنه وعن حاجتهم إليه.
وسأتناوله في ثلاث نقاط باختصار شديد أرجو أن لا يكون مخلا لأن الباب باب تذكير لا باب تعليم وهي :
*أهمية الأمن كما بينته النصوص الشرعية
*طريقة الشريعة الإسلامية في المحافظة عليه
*واقع الأمة الأمني وما يجب على العلماء فيه
فإذا كان المراد بالأمن السلامة من كل معكر لصفو الحياة سواء من الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات والعواصف ، أو من الفتن والحروب والاعتداءات التي يصدر من البشر ضد أخيه لأي سبب كان فهو مطلب أساس لقيام الحياة السعيدة ، بل هو أكبر نعمة أنعمها الله على الناس في هذه الحياة ولا يعرف قدرها إلا من فقدها . فنعم الله على عباده لا تعد ولا تحصى وتتفاوت في الأهمية بحسب الحاجة إليها وبقدر إمكانية الاستغناء عنها فترة من الفترات ، فلو أردنا أن نرتب هذه النعم الأساسية للحياة ترتيبا صعوديا وهي الماء والغذاء والهواء نجد أن الطعام نعمة كبرى لأن به تقوم الأجسام وتدوم ، ولكن نعمة الماء أكبر منه فالإنسان قد يصبر عن الطعام يوما أو يومين أو أكثر ولكنه لو فقد الماء هذه الفترة لصعب عليه الحياة أكثر . وأكبر منهما نعمة الهواء والتنفس فلو حبس نفس الإنسان ساعة أو أقل منها بل بضع دقائق لزهق روحه ، فالهواء والماء والغذاء نعم ثلاثة كبرى وعظيمة يتنعم بها الإنسان بفضل الله سبحانه وتعالى ، ولكن هل يمكن أن يتنعم الإنسان بها مع الخوف والرعب ؟ لا فمع الخوف وزوال الأمن تسلب هذه النعم كلها من الإنسان وحتى إذا توفرت لا يستطيع أن يتنعم بها حتى الهواء النقي لا يتنفسه الخائف تنفسا طبيعيا كالآمن حيث يكون صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء، لذلك لما أدرك سيدنا إبراهيم عليه السلام أهمية الأمن للأوطان جعله أول مطلب يطلبه من ربه لما أسكن أهله في الوادي غير ذي الزرع عند بيت الله المحرم ، فقدمه على طلب التوفيق للاستمرار على التوحيد والاجتناب من عبادة الأوثان ، وعلى توفير الأرزاق ، لأن العبادة تمارس ممارسة صحيحة في ظل الأمن والأمان وتروج الأسواق وتنتشر الأرزاق ويكثر السعي لطلب المعاض في حالة السلم لا في حالة الحرب ، يقول الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام ((وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام)) إبراهيم 35 وقال في سورة البقرة 126 (( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير)). والأمن مع الإطعام هما النعمتان اللتان امتن الله بهما على قريش واستدل بهما على عظمة ربوبيته المستلزمة لألوهيته ووجوب عبادتهم له ، قال تعالى (( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ))قريش 3-4
وإنما امتن الله عليهم بهذه النعمة لأنهم كانوا يبررون عدم اتباعهم لمحمد صلى الله عليه وسلم بالخوف من أن يتخطفوا من قبل القبائل الأخرى فذكرهم بالنعمة الثابتة لهم رغم أن من حولهم افتقدوها وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) القصص (57) وقال تعالى في هذا الصدد (( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم )) العنكبوت 67 ويلاحظ القارئ لهذه النصوص الإلهية المقدسة أن الله سبحانه وتعالى يربط دائما بين الأمن والرزق وبين الأمن والعبادة مما يعطي دلالة واضحة على أن أهمية الأمن للفرد والمجتمع لا تقل عن أهمية الطعام للبدن ، وأن العبادة الصحيحة التي هي سبب إيجاد البش لا يمكن أداؤها خير الأداء إلا في رحاب الأمن . وهذا ما نستشعره من دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام ومن امتنان الله تعالى لقريش كما سبق . وهذا أمر واضح للعيان لأنه إذا قامت الحروب وهاجت الفتن تهجر المساجد والمعابد المختلفة بل وتهدم وتخلو المدارس من المعلم والمتعلم وتبقى المزارع بدون لمنتجين فيها ، وتغلق المصانع وتغلو الأسعار لقلة البضائع وعدم تمكن الناس من الوصول إلى مصادر لزق المختلفة وتعطيل أسباب المعاش، بل لا يهنأ بطعام ولا يستساغ شراب لأن المرء لا يدري متى يأتيه الموت . وزوال نعمة الأمن من أعظم العقوبات التي يعاقب الله به العصاة الذين كفروا بأنعمه يقول المولى تبارك وتعالى ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )) النحل(112)
نعم هذه المقابلة العادلة ، لما كان الأمن وسعة الرزق من أعظم النعم التي لا يفوقهما إلا نعمة الإسلام ، كان الجوع والخوف من أعظم العقوبات لمن كفر بهما . ويكفي في بيان أهمية هذا الأمر للفرد والمجتمع أن جعله النبي صلى الله عليه وسلم ثلث نعم الدنيا قال صلى الله عليه وسلم ( من أصبح آمنا في سريه معافى في بدنه له قوت يومه فكأنما حيز له الدنيا بحذافيرها )) رواه البخاري في الأدب المفرد وابن ما جه والبيهقي . فهذه النعم الثلاثة ليس ثمة أهم منها إلا نعمة الإسلام ، الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان وسعة الأرزاق ، وهذا ما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ))رواه ابن ماجه فالفراغ لا يكون إلا لآمن ، أما الخائف فمشغول دائما . وفي عصرنا هذا الذي صار العالم موحدا في مصالحه ومتحدة في كثير من شئونه نلاحظ أن الحروب التي تنشأ في منطقة ما من العالم تؤثر على الحركة الاقتصادية العالمية نظرا لارتباط الدول بعضها ببعض . فعندما يقوم الحرب في منطقة منتجة للنفط مثلا ويعتذر إصدار منتوجها إلى الأسواق العالمية يقل الكمية المعروضة وبالتالي ترتفع أسعار النفط الخام أضف إلى ذلك أن ناقلات البضائع تزيد من أجرتها لكثرة التأمينات نظرا للمخاطر التي تتعرض لها بسبب الحرب فيزداد بذلك أيضا السعر ن وإذا ارتفع سعر البترول الخام يارتفع سعر الوقود المستهلك في جميع الصناعات الدولية ، فيرتفع بالتالي أسعار جميع المنتجات بما في ذلك مستلزمات الحياة الأساسية التي يحتاج إليها كل الناس من المواد الغذائية والأدوية ومواد البناء ووسائل النقل وهلم جرا فيدخل العالم برمته في غلاء فاحش لا يتحمله حتى الأثرياء . وإذا كان الأمن بهذه الأهمية فلننظر كيف اهتم الإسلام به وحافظ عليه .
يقول الإمام الشاطبي في بيان منهج الشريعة في حفظ المصالح الضرورية الخمسة (والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود . والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها3 من جانب العدم) ج2 ص 18 وإذا طبقنا هذه القاعدة فيما نحن فيه نجد أنها مطردة فقد حافظ الشريعة على هذه المصلحة العظمى والنعمة الكبرى بتشريع كل ما يؤدي إلى إيجاد أركانه وتحقيقه للفرد والمجتمع ، وكذلك شرع ما يمنع الناس من الإخلال به ، ففي جانب الإيجاب نرى الشريعة المحمدية الغراء قد وضعت أسباب تحقيق الأمن للفرد نفسه ولمحيطه القريب منه ولمجتمعه ا لإسلامي والإنساني بكامله . فقرر للفرد منهجا إذا سلكه أمن من شر نفسه الأمارة بالسوء التي تخدعه بهذه الدنيا وترغبه في الاستكثار من متاعها وتخدعه بالآمال الطويلة كأنه باق فيها أبدا ، فتحمله على اليأس والقنوت والضجر كلما فاته شيء من متاعها فيعيش قلقا خائفا غير آمن رغم ما يكون فيه من خير وما من الله عليه من نعم ، وهذا المنهج هو الإيمان بالله والوثوق بقضائه وقدره وأن يثق المرء بأنه مضمون في هذه الحياة الدنيا ومقدر له رزقه لا يزيده حرص حريص ولا ينقصه كراهية كاره ، وأن ما كتب له يأتيه من فوق السماء أو من تحت الأرض ويأتيه من حيث لا يحتسب فما عليه إلا أن يأتي بالأسباب المشروعة والنتيجة من عند الله تعالى روى أبوهريرة عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((اَلْمُؤْمِنُ اَلْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ مِنْ اَلْمُؤْمِنِ اَلضَّعِيفِ, وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ, اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ, وَلَا تَعْجَزْ, وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ; فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ اَلشَّيْطَانِ )- أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ . فالحديث يرشد الإنسان إلى أن يجعل الله أما عينيه في كل أمر
فإذا أصابه خير علم أنه من عند الله فيشكره وله بالشكر الزيادة ، وإذا أصابه ضير أو فاته نيل علم أن ذلك بتقدير الله بحكمة منه ولمصلحة العبد فيصبر ويرضى وينال بذلك الأجر ويبدله الله خيرا مما فاته ، وهذا المنهج هو معنى ذكر الله المؤدي إلى اطمئنان القلوب والذي امتدح الله أهله ووصفهم بأنهم الذين آمنوا وأنهم أصحاب القلوب المطمئنة ((الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد (28)وهذا المنهج هو الإيمان الحقيقي الذي يجلب الأمن الدائم للمرء ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) الأنعام (82). هذا بالنسبة للفرد وأما الأسرة وأمنها فقد أرشد الدين إلى منهج قويم يحقق لها الأمن والرخاء والرفاهية ورغد العيش ولو مع ثليل القوت ، فقد قرر الله الحقوق والواجبات لكل طرف على الطرف الآخر ولكن بين بعد ذلك أن حسن العشرة باتباع سبيل الإصلاح بين الزوجين فقال تعالى ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) النساء (128) وذلك لأن تمسك كل طرف بحقوقه تمسكا حرفيا ورفضه عن التنازل عن بعضها قد يؤدي إلى نزاع شديد واختلال بأمن الأسرة فحذر الله من الشح وهو البخل الشديد وعدم التنازل هنا وأمر بالإصلاح حتى تستقيم الأسرة ن فإذا عاشت الأسر آمنة رخية صار المجتمع كذلك لأن أمن المجتمع يبدأ من أمن الأسر كما أن أمن الأسرة من أمن أفرادها وإيمانهم . وإذا تجاوزنا الفرد والأسرة نجد أن قواعد الحياة الاجتماعية التي قررها الإسلام كلها داعية إلى استتباب الأمن ونشر ثقافة السلام في المجتمعات الإنسانية فقد شرع للمسمين التأخي والتعاون والتحابب وأن يكون بعضهم أولياء بعض وحذر من التباغض والتحاسد وأن يقحم المرء في معاملة بدأها أخوه ليفسده عليه سواء كان تجارة أم نكاحا لما يؤدي ذلك إلى إيغال النفوس وتولد الشحناء بين المسلمين كل ذلك ليعيشوا إخوانا متحابين قال صلى الله عليه وسلم ((عن أبى هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم – لا تحاسدوا ، و لا تناجشوا ، و لا تباغضوا و لا تدابروا ، و لا يبع بعضكم على بيع بعض ، و كونوا عباد الله إخوانا ، السلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله ، و لا يكذبه و لا يحقره ، التقوى ها هنا – و يشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه ))- رواه مسلم بل ربط النبي صلى الله عليه وسلم إيمان أمته الذي يدخلهم الجنة بالتحابب بينهم وأرشده إلى إفشاء السلام بينهم كوسيلة لزيادة هذه المحبة الواجب تبادلها بينهم قال صلى الله عليه وسلم ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السلام بينكم ) . رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها الناس : أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، … تدخلوا الجنة بسلام ) . رواه الترمذي
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلام إفشاء السلام بين المسلمين من خير خصال الإسلام . عن عبد الله بن عمرو : ( أن رجلاً سأل رسول الله ( ، أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) . متفق عليه وشرع الإسلام للبشرية جمعاء التعارف وأن يحسن بعضهم إلى بعض بصرف النظر عن الجنس واللون والدين لأن الدين هو ميزان الكرامة عند الله ولكنه ليس حاجزا دون الإحسان إلى من يخالفك في الدين يقول الله تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) الحجرات (13) فهنا الخطاب للناس جميعا ، وقال سبحانه ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) الممتحنة (8) وهؤلاء مخالفون لنا في الدين ولكن لا يحاربوننا فلا ضير أن يحسن المسلم إليهم ويبرهم فهذا الذي يحبه الله . نعم إذا ساد في المجتمعات التعارف والتعاون والتحابب وخلا منها التحاسد والتباغض والتنافس غير الشريف على متاع الدنيا الفانية يتحقق فيها الأمن والرخاء ويعبد الناس ربهم ويعمرون الأرض وينالون سعادة الدنيا والآخرة. وأخيرا أود أن أشيرا إلى نقطة مهمة في هذا الباب وهو أن مما يحافظ على الأمن في المجتمعات الفهم الصحيح للمسائل الشائكة والقضايا الحساسة ، وهذا لا يعرفها إلا العالمون ، المستنبطون لدقائق الأمور أما إذا ذهب كل إنسان ليفهمها بنفسه مع قلة بضاعته في العلم يزيغ كثير منهم ويخرجون بتأويلات فاسدة ربما حملهم على تصرفات غير حكيمة تخل بأمن الأمة لذا وضع الإسلام منهجا محكما هنا فأمر الأمة أن ترجع في مثل هذه الحالات إلى أولي الأمر الذين يستنبطون الحكم الصحيح من مصدر صحيح يقول الله تبارك وتعالى ((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)) النساء (83) هذا منهج الإسلام في حفظ الأمن من جانب الإيجاب .ويمكن القول بأن تشريعات الإسلام السمحة كلها داعية إلى السلم والأمان وهل أخذ اسم الإسلام إلا من السلام ؟! أما حفظه له من جانب السلب أنه قرر العقوبات الشرعية الرادعة والزاجرة لكل من يسول له نفسه أن يعتدي على شيء من مكونات هذا الأمن كحد السرقة والقذف وحد الحرابة والقصاص كذا التعزيرات التي جعل للحاكم تقديرها بقدر الجريمة ومرتكبها ، وهذا لا أريد الإطالة فيه لشدة وضوحه .
إن الذي ينظر إلى عالم اليوم يمكنه أن يقسمه إلى نصفين : نصف آمن متطور يسعد شعبه بالرخاء ورغد العيش ويدخل فيه معظم دول الشمال وبعض الدول الإسلامية ، ونصف آخر هائج متموج لا تنام فتنة فيها حتى تظهر أخرى أشد من سابقتها تأكل الأخضر واليابس ويذهب ضحيتها أبناؤها ونساؤها وشيوخها وتستنزف مواردها الطبيعية وتدمر مقوماتها الحضارية ، وهذا وضع كثير من الدول الإسلامية سواء كان هذا الدمار بفعل أبنائها أو بغزو خارجي من المعتدين الظالمين . وليست المشكلة في قيام هذه الحروب لأنها قامت في فترة من الفترات ولم يندم أحد على ما فات بسببها لأنها كانت لأسباب صحيحة كالغزوات النبوية لرفع كلمة لاإله إلا الله محمد رسول الله وإسماعها للناس جميعا وكحروب التحرير التي شهدتها بعض هذه الدول لتحرير الأوطان من نير الاستعمار الصليبي الغاشم ، ولكن المشكلة أن الفتن التي يروح ضحية فيها كثير من الأبرياء في الوطن الإسلامي ترجع إلى مبررات غير صحيحة بمنظور الشرع فلا يمكن أن يسمى جهادا ما يقوم به بعض الطوائف بقتل طوائف أخرى من المسلمين لأنهم خالفوهم في الرؤى والتوجهات ، وليس جهادا أبدا ما يقوم به البعض بقتل المستأمنين من أبناء الديانات الأخرى الذين يدخلون في أوطاننا المسلمة بإذن منا وأماننا ، ومعلوم أن من استأمنه مسلم واحد يجب أن يستأمنه جميع المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم ((المؤمنون تتكافؤ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ) رواه أبو داود ، والنسائى ، والحاكم ، والبيهقى عن علىرضي الله عنه ، وقال صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) رواه البخارى ، ومسلم عن أم هانئ ، وإنما يحمل هؤلاء على ارتكاب ما يرتكبون في تقديري أمران اثنان
الأول : الوضع الذي وصل إليه المسلمون من الإعراض عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والجري وراء الغرب وأخذ كل ما عندهم في كل شيء من التشريعات والتنظيمات وسلوك الحياة وجعلها هو الميزان الذي نزن به الأمور في أمتنا حتى في المصطلحات ، فالحسن ما حسنوه لا ما حسنه الشرع والعدل ما أقروه لا ما أقره الله حتى إذا اختروا مصطلحا وقبحوه قبحناه في وسائل إعلامنا وإن كان مصطلحا محمودا في شرعنا فهذا الإعراض الشديد الذي تعيشه الأمة من حيث هي أمة لا أقول أفرادها من حيث هم أفراد هذا الإعراض ولد لدى من لهم غيرة على الإسلام وحماس شديد للدفاع عنعم ولكن بدون فقه ولا علم على ارتكاب هذه الجرائم الشنيعة ظنا منهم أنهم بذلك ينصرون دين الله ويعلون كلمته . الأمر الثاني : الفهم القاصر لمقاصد الدين الإسلامي ومنهجه في معالجة الأمور والاكتفاء بظاهر من القول حيث إن معظم هؤلاء الشبيبة لا يتلقون العلم من أهله العارفين به وإنما يأخذونه ممن هو مثلهم في الجهل أو أشد فظهرت التأويلات الباطلة والانحراف المضل ، فلو أنهم سألوا أهل الذكر عن معنى الجهاد ومراحله لعلموهم أنه بذل الجهد والطاقة لنشر الدين الإسلامي الحنيف وإبلاغه إلى العالمين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، فالمرحلة الإولى من الجهاد هو دعوة الناس إلى الدين فمن أجاب له ما لنا وعليه ما علينا وهو أخونا ، ومن لم يجب وقد بلغه البيان ف(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة (256) والقتال هو المرحلة الأخيرة وليس لإرغام الناس على الدخول في الدين وإنما يقاتل من يصد عن سبيل الله حتى يفتح المجال لإسماع كلمة الله ، لذلك لا يقاتل إلا المقاتل في ميدان القتال كما جاء عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ, عَنْ أَبِيهِ قَالَ: – كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ, وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ خَيْراً, ثُمَّ قَالَ: “اُغْزُوا بِسْمِ اَللَّهِ, فِي سَبِيلِ اَللَّهِ, قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ, اُغْزُوا, وَلَا تَغُلُّوا, وَلَا تَغْدُرُوا, وَلَا تُمَثِّلُوا, وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيداً, وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ, فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا, فَاقْبَلْ مِنْهُمْ, وَكُفَّ عَنْهُمْ: اُدْعُهُمْ إِلَى اَلْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ….)) رواه مسلم . فلو أنفقوا هذه القوة وهذه الأموال والأوقات في تعلم الدين ونشره وإسماعه للآخرين بالوسائل المختلفة المتاحة الآن ، كوسائل الإعلام المتنوعة وووسائل الاتصالات المتعددة لكانوا قد بلغوا الدعوة ودعوا الناس كما طلب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الطرق الآن لا سبيل لأحد أن يحول دون استخدامها فصار بالإمكان الآن إسماع أعتى الكفار كلام الله في بيته وفي غرفة نومه ، لو فعلوا ذلك كان هو الجهاد الحقيقي وهذه هي المرحلة الأولى للجهاد ، أما ما يقومون به من تفجير المبانب وقتل الأبرياء وتدمير المنشآت فهو اعتداء وقد نهانا الله من الاعتداء حتى على الذين لا نحبهم قال تعالى ((وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) المائدة (87)وقال تعالى ((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ))المائدة (2)
كما أن أعداء الإسلام لإدراكهم بحقيقة هذه الجماعات ومن فيها يستغلونها لجعل ما يقومون به هو الإسلام فيتخذون ذلك تكة لحربه بشتى الوسائل وتغرير الأمة بهم وزعزعة الأمن وتدمير المكتسبات حتى تكون الأمة الإسلامية في ضعف دائم وما هكذا أرادها ربها الذي جعلها خير أمة أخرجت للناس وجعل المسلمين هم الأعلون .
لذا لا نجاة من هذه المعضلة إلا برجوع الأمة إلى شرع ربها فيقوم الأمراء بإقامة العدل بين الناس ونشر راية الدين والدفاع عنه وأن يقوم العلماء بتوضيح الإسلام الحقيقي للناس حتى ينعموا جميعا بأمنه وأمانه.
ولعل في تكاتف الحكومات الإسلامية وإعانة علمائها الربانيين في هذا الباب ما يكفل تحقيق هذا الهدف ، فلا ينبغي أن يتولى تدريس الدين إلا العلماء الربانيون المعروفون بالدين والصلاح والتمكن العلمي والفقه العميق لواقع الأمة بعد فقه شرعها . وأن يشعر المسئولون في الدول الإسلامية أن القيام بذلك من ضمن واجبهم المؤكدة فالحاكم هو خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا كما قاله الإمام الماوردي عند تعريفه للخلافة في الأحكام السلطانية . ولا أبالغ إذا قلت بأن سلامة الدين وصلاح الفكر الديني وأمنه أهم للمجتمعات من سلامة الطرق والجسور والمنشآت ، لأن خللا في الطريق قد يؤخر وصول السيارة ، وخلل في مبنى قد يؤدي إلى سقوطه وموت عدد من الأفراد أما خلل في الدين وغلو وتطرف فيه يهلك الحرث والنسل ويذهب أرواحا ويدمر مقدرات الأمة بأسرها وما الجماعات التكفيرية منكم ببعيد ، وقديما قيل فساد العالم فساد العالم فيكف إذا تعالم من ليس بعالم وأخذ يفتي بجهل ليس وراء ذلك إلا بلاد بلاقع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يحفظ الأمة الإسلامية كافة من الفتن والزلازل والمحن عن قارتنا هذه خاصة وسائر قارات المسلمين عامة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المصدر:
انقر هنا